Wednesday, December 05, 2012

الإرشاد الرسولي والحوار: توصيات عملية


My conference at the Assembly of Patriarchs and Bishops of Middle Eastern Catholic Churches (Bethania, Harissa-Lebanon, 06-12-2012) on Muslim-Christian Dialogue and its implementation. 

Dr. Pamela Chrabieh



Dr. Pamela Chrabieh


د. باميلا شرابيه

    منذ بداية العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، ترتبط مسألة الحوار ببعدين أساسيين: الحياتي والعملي (أي خبرات العيش المشترك بين الأفراد والجماعات) واللاهوتي والروحاني. لا يُمكن لتاريخ هذه العلاقات أن يُلخّص في تعبير واحد: السلبيّة أو الإيجابية، ولكن يمكن أن نقول أن هذه العلاقات تميّزت تارةً بالتنافس والخصوم والحروب، وطوراً بالحوار البنّاء والاحترام والمشاركة والعمل معاً من أجل تحقيق العدالة والحرية والسلام.
    تكمن إحدى التحدّيات التي نواجهها اليوم ليس فقط في أهمية "توسيع" مساحات الحوار والعيش المشترك على الصعيدين المحلي والعالمي ولكن أيضاً في إعادة بناء ذاكرتنا الجماعية التي تدعم الأحكام المسبقة والهوايات المتصارعة أكثر من الخبرات السلميّة، أكانت في الحياة اليومية أو في الأوساط الأكاديمية واللاهوتية.
    يُظهر الإرشاد الرسولي الذي وقّعه البابا بنديكتوس السادس عشر أثناء زيارته إلى لبنان في أيلول 2012 أهمية الانفتاح على حوار حقيقي بين الأديان – لا سيما المسيحية واليهودية والإسلام – دون الوقوع في الطائفية، مبنياً على الإيمان بالإله الواحد. ويدعو الإرشاد إلى تنقية الذاكرة، إلتزام لغة السلام، العمل معاً لتدعيم الحوار الديني وحوارالحياة من خلال المناهضة المشتركة لكلّ أنواع الأصولية والعنف باسم الدين، والبحث عن مستقبل مشترك أفضل.
    بناءً على هذه المقدمة، وعلى ما جاء في الإرشاد الرسولي، وعلى نتائج أبحاث ميدانية أقوم بها منذ سنوات في الجامعات والمجتمع المدني، أعرض في ما يلي بعض التوصيات العملية.
1-  الانتماء الديني من اجل بناء السلام:
أعتقد أن الانتماء الديني والقناعة يحفزان الأفراد والجماعات للدعوة الى سياسات ذات صلة ببناء السلام (Advocate for Peace – Related Policies). من خلال التعاليم اللاهوتية والخدمة في الرعايا، تلعب الجماعات الدينية دوراً مهماً في تشكيل المواقف والعمل من أجل السلام. من هنا أهمية استكشاف وعرض المفاهيم الرئيسية لبناء السلام التي تمّ تحديدها في الكتب المقدسة والتقاليد الدينية، بما في ذلك الحوار، والمصالحة، والعدالة، والمغفرة، ونبذ العنف، الخ....
عملياً، يمكن تنظيم ودعم حركة حوار بين أساتذة جامعيين مسلمين ومسيحيين وباحثين في الكليات الدينية والعلوم الإنسانية، من اجل تحديد "معجم" أو "ثقافة" الحوار من أجل السلام، تعتمده المدارس والجامعات والرعايا والأبرشيات. من الأفضل أن تكون هذه الحركة محليّة، وثقافتها ترتكز على خبرات المجتمع المحلّي وتُلهم هذا المجتمع.

2-    محاربة الجهل الثقافي وتهديم هيكل الأحكام المسبقة والذاكرة المتألمة
 (Wounded memory)
    الجهل يطوق معظم المسلمين والمسيحيين: جهل بالتراث والتاريخ، جهل بالتصرّف مع الآخر باحترام، جهل سبل معالجة الأزمات دون اللجوء الى العنف، جهل تقييم الحداثة وما بعد الحداثة (Modernity-Post)  التي سمحت لأفراد وجماعات معتدى عليهم في أوطانهم باللجوء إليها للدفاع عن قضاياهم.
    الظاهر أن حالة الجهل التي تسود مجتمعاتنا رافقتها حالة استعلاء ديني و"طاووسية إيمانية" و"جنون العظمة" بدت جلية في خطاب البعض. وفي حالة الجهل، تبدو صورة الآخر المهيمنة هي صورة المعتدي والمتسلط في مقابل الأنا الضحية والمعتدى عليها. النقد الموجّه الى مرّوجي هذه الآراء هو التعميم في إصدار الحكم على الآخر. فالشعوب والأديان والثقافات ليست كُتل متجانسة.
    تضم حالة الجهل، جهل بحقوق الإنسان التي استُبدلت في خطاب المتشددين بثنائية الحلال والحرام والدفاع عن حق الله لا عن حق الفرد. من الحقوق التي يشدّد عليها الإرشاد الرسولي، الحق بالحرية الدينية، التي في نظرنا، ليست قيمة يتمتع الواحد فيها بينما يُحرم الآخرون منها. لا يُمكن غضّ النظر عن انتهاكات الكنائس وقتل رجال الدين وانتهاكات حقّ ممارسة الشعائر وشتم الرُسل والأنبياء...
    عملياً، أقترح ما يلي:
·        إدخال مواد تُعنى بالتنوّع الديني والحوار في الجامعات والمعاهد والمؤسسات التربوية، تمنح لكافة طلاب الجامعة، مثل على ذلك في جامعة الروح القدس – الكسليك التي تستقطب كلّ سنة أكثر من 1500 طالب مع مواد الـ Electives. يمكن أن تتضمن هذه المواد مقدمة في العقائد والممارسات الأساسية للأديان السماوية، العلاقات بين الدين والسياسة، أهمية بناء ذاكرة جماعية سليمة ومن هنا تاريخ وهوية ،سليمين علاقة المسيحيين والمسلمين  بالزمن الحالي وتصوّرهم له وكيفيّة حلّ مشكلة الانتماء الى زمنين في نفس الوقت (زمن العولمة  والمكاسب المدنية، وزمن مصادرة الفكر المختلف وتصفيته عند  الاقتضاء).
·        تأسيس مراكز أبحاث ميدانية في الجامعات ترصد وتحلّل وتنشر معلومات ودراسات عن خبرات الماضي والحاضر في العلاقات الدينية والثقافية، وتنظّم دورات وحملات توعية مع الشباب في المدارس والجامعات وزيارات للأماكن المقدسة واحتفالات ثقافية وفنيّة... من المهمّ جداً أن المعرفة لا تبقى مع النخبة بل يجب أن تعمم. الندوات والأبحاث لها دور فعّال ولكن تكون فعاليتها أوسع عندما تتواصل مع الميدان وتتبلور في ذهون الشباب خصوصاً وأفراد وجماعات المجتمع المحليّ كافّة.
أضف أنه يجب رصد الحالة البحثية حول الحوار وكافة المحاور التي تعنى ببناء السلام لتجنّب التكرار والسجال وسعياً الى التقدم.
3 – دور الشباب:
مصدر التغيير يكمن، على ما هو متعارف عليه، في الشباب، وطليعة الشباب غالباً ما تكون من كوادر طلاب مثقفين. والجامعة مركز هؤلاء وملتقاهم ومكان تفاعلهم، كما هي الحال في جمعيّات المجتمع المدني والحركات الشبابية على الأنترنت (Online Activism). لذا أقترح ما يلي:
·        تأسيس اتحاد للطلاّب ذو تحرّك غير موسمي أو وفقاً لمنطق الفعل وردة الفعل, إنّما تحرّك جماعي متعدد الانتماءات الدينية والسياسية، منتظم وطويل الأمد، له جهود مختلفة الوجوه، لا يقف عند مظاهرة أو اعتصام أو إضراب، ويبرز ضرورة العمل على إزالة النقمة العارمة لدى الطلاب على الجيل السابق وعلى المؤسسات الكنسية بغية حثّهم على اقتباس نجاحاتهم، وللإنعاظ في إخفاقاتهم وقد يعمل هذا الاتحاد على ابتكار أدوات ومفردات جديدة في العمل السياسي عوض تكرار شعارات الحرب، ابتكار حلول جديدة ومشاريع وإشكاليات جديدة، وتنظيم حلقات فكريّة وتطبيقية، ومحاربة اللامبالاة في التعاطي بالشأن العام والتسييس المعتمد، والإحباط واليأس والاستقالة والانكفاء.
·        تأسيس قاعدة حوارية في الشرق الأوسط على الأنترنت، تضمّ كافة الوسائل الشبابية التي تناضل من أجل السلام وتستعمل الوسائل التي أصبحت لغة الشباب مثل: , Facebook، Twitter، Blogs (المدونات)...
4 – دور المجتمع المدني:
لدى المجتمع المدني دور في الحفاظ على النسيج المحلي، خاصة عندما يكون موحّد، بعيداً عن خطاب التصادم وغياب المعالجات الحقيقية والاكتفاء بالاستنكار والتمني. هذه الهيئات – أي هيئات المجتمع المدني – هي عنصر توازن (contrepoids) بالنسبة الى قوى حزبية قد تنمو الى الهيمنة والتسلّط.
        أقترح هنا تأسيس قاعدة تجمع بين الجمعيات الغير الحكومية التي تناضل من أجل الحوار والعيش المشترك وإدارة تنوّع عادلة والسلام وحقوق الإنسان  الخ... على الصعيدين المحليّ والشرق الأوسطي، ودعم حركاتها في التوعية والتثقيف.

5 – دور المرأة:
        جاء في الإرشاد الرسولي توصية للكنائس في الشرق الأوسط تُعنى باستخدام الوسائل المناسبة لتشجيع احترام المرأة ودعمها وصون كرامتها ودورها وحقوقها. من هنا اقترح ما يلي نسبة إلى مسألة حوار الأديان وبناء السلام:
·        دعم الحركات التي تناضل من اجل حقوق المرأة مثل حملة Facebook "لمناهضة المرأة في العالم العربي" والتي تضم مسيحيين ومسلمين، نساء ورجال، من كافة البلدان العربية والغربية، والذين أصبح عددهم اليوم أكثر من 70,000 مساند للحملة.
·        دعم باحثات وأساتذة جامعيات تتمحور دراساتهنّ في مجال حقوق المرأة والحوار الديني والحياتي.

الخاتمة:
        من الواضح أن الحوار تواجهه اليوم صعوبات وتعترضه عقبات جديدة، من هنا أهمية أن يكون معرفياً وتطبيقياً لا أيديولوجياً وتكتيكياً وميكانيكياً و"لتمرير الوقت". الحوار في التنافس الحقيقي والشراكة في رفع التحديات وتجاوز العقبات والمعوقات النفسية والدينية والسياسية و المعرفية وكشف النقاط السوداء (points aveugles). إن الرهانات التي تواجه المسيحيين والمسلمين اليوم هي كيف السبيل الى استبدال ثقافة العنف والموت بثقافة السلام والحياة؟ وكيف السبيل الى القضاء على ثقافة العنصرية و الإقصاء وتأسيس ثقافة الاحترام المتبادل؟ فنحن مدعوون الى أن نعيش معاً وأن نحافظ على خصوصياتنا وأن نستمتع بالغيريّة.
        لا سلام من دون العمل على الصدمات (traumas) في سبيل استيعابها داخلياً (Mentalisation) لأنه ليس لدينا طريقة هروب فنفرغ الصدمات بافتعال مشاكل أو بالهجرة.
        لا سلام إن لم يندرج الحوار في إطار المؤسسات ويتعلق ليس بالشؤون الكيانية بل بالسياسات العامة. الخطر الأكبر هو "دكتاتورية انسداد الأفق التي تنطبق على مسار مجتمعاتنا اليوم إذا لم يحصل تجدد عملي ومؤسساتي".
        أخيراً، إن التجدد لا يمكن أن يحصل دفعة واحدة، ولا أن يتخذ أكثر المواضيع حساسية في مرحلته الأولى. وإنما يقتضي العمل بتدرّج، وتجزئة المطالب الى مراحل. إن التجدّد، قبل كل شيء آخر، مناهضة للواقع بأدوات الواقع.